Blog Details

لماذا تُنتج البيئات القاسية شخصيات أكثر ظلمة؟

لماذا تبدو بعض المجتمعات أكثر أنانية أو دهاءً أو قسوة من غيرها؟ قد يُعزى الأمر إلى الثقافة أو السياسة، لكن هذه العوامل لا تفسّر الصورة كاملة. تشير دراسة حديثة نُشرت في مجلة Evolution and Human Behavior إلى أن جذور هذه الاختلافات أعمق بكثير؛ إذ إن الظروف البيئية والاقتصادية والاجتماعية التي ينشأ فيها الأفراد قد تترك بصمتها على سمات الشخصية الجماعية للمجتمعات.

تُعرف هذه السمات باسم ثالوث الظلام وتشمل: النرجسية، والماكيافيلية، والاعتلال النفسي. يسعى النرجسي إلى الإعجاب والتقدير، ويتّسم الماكيافيلي بالمكر والتخطيط طويل المدى، بينما يتصرّف السيكوباثي باندفاع وغياب للتعاطف. ورغم اختلاف آلياتها، فإنها جميعًا تشترك في جوهر واحد هو المصلحة الذاتية واستغلال الآخرين.

تركّزت معظم الدراسات السابقة على الأفراد، مثل تأثير هذه السمات على القيادة أو العلاقات أو السلوك الرقمي، لكنّ القليل منها تناول السؤال الأوسع: لماذا تميل بعض الشعوب إلى سمات أكثر ظلمة من غيرها؟ من منظور علم النفس التطوري، بحثت الدراسة كيف تؤثر العوامل البيئية — مثل معدلات البقاء، ونِسب الجنسين، وانتشار الأمراض أو الكوارث — في تشكيل أنماط الشخصية على مستوى الشعوب.

خريطة السمات المظلمة عبر العالم

اعتمدت الدراسة على بيانات من 48 دولة وأكثر من 11 ألف مشارك، وتبيّن أن البيئات القاسية تترك أثرًا واضحًا على سيكولوجية المجتمعات.

فقد ارتفعت مستويات النرجسية في البلدان التي كان فيها عدد الرجال أكبر من النساء في سن الطفولة والمراهقة، حيث تشتد المنافسة على الشركاء. كما كانت أعلى في الأماكن التي ينخفض فيها متوسط العمر المتوقع، ما يعكس الإحساس بعدم الاستقرار والتهديد. في مثل هذه الظروف، يصبح السعي وراء المكانة والترويج للذات سلوكًا تكيفيًا يساعد على البقاء.

في المقابل، كانت الماكيافيلية والاعتلال النفسي أقل انتشارًا في البيئات التي تنتشر فيها الأمراض المعدية. ففي مجتمعاتٍ كهذه، يصبح الحفاظ على التماسك الاجتماعي والتعاون ضرورة حياتية. فالكذب أو الخداع قد يؤدي إلى نبذ الفرد، وهو ما قد يهدد بقاءه.

الكوارث والفروق بين الجنسين والتأثيرات المتبادلة

أظهرت الدراسة أيضًا أن الكوارث الطبيعية تعزز الفروق بين الجنسين في السمات المظلمة؛ إذ سجّل الرجال في البلدان المعرضة للفيضانات أو الزلازل أو العواصف معدلات أعلى من النساء في النرجسية والماكيافيلية والاعتلال النفسي. ويُرجّح أن السبب يعود إلى الضغوط التطورية التي تشجع السلوك المخاطر والتفكير قصير المدى في البيئات غير المستقرة.

لكنّ المجتمعات التي تسودها نسبة ذكور مرتفعة أظهرت تراجعًا في هذا الفارق، إذ بدت النساء أكثر ميلاً إلى التنافس أو الترويج للذات عندما تشتد المنافسة الاجتماعية.

كما كشفت الدراسة عن وجود تأثيرات نفسية متبادلة بين الدول المتجاورة؛ فالمجتمعات ذات معدلات عدم مساواة مرتفعة سجّلت مستويات أعلى من النرجسية والماكيافيلية مقارنة بجيرانها، مما يشير إلى أن السمات قد تنتقل عبر الحدود بفعل الهجرة أو الأزمات الإقليمية أو التأثير الثقافي المشترك.

إعادة التفكير في الجانب المظلم

تشير النتائج إلى أن السمات المظلمة ليست مجرد نقائص شخصية أو ثقافية، بل يمكن فهمها كتكيّفات مع بيئات قاسية أو غير مستقرة. فحين يندر الأمان والموارد، قد تكون الأنانية والمخاطرة أدوات للبقاء. أما في البيئات الغنية بالأمراض، فإن الامتثال والتعاون يصبحان مفتاح النجاة.

النتيجة الأعمق أن الشخصية نتاج البيئة. فالنرجسية والماكيافيلية والاعتلال النفسي ليست فقط نتيجة الوراثة أو التربية، بل تعبير عن منطق البقاء الذي تفرضه البيئة. وهكذا نفهم لماذا تبدو بعض المجتمعات أكثر تنافسًا أو تمحورًا حول الذات — لأن حتى “جانبنا المظلم” قد يكون في جوهره استجابة تكيفية لواقع الحياة.