Blog Details

خرائط العقل: كيف يغيّر توسّع عالمك الداخلي طريقة إدراكك لذاتك

تخيّل أنك تعيش في أواخر القرن الخامس عشر، في زمنٍ كانت الخرائط تُظهر القارات المعروفة فقط. ثم خرج المستكشفون إلى المجهول، فعادوا باكتشافات غيّرت نظرتنا إلى كوكب الأرض وإلى موقعنا فيه. لم تتوسّع الجغرافيا فحسب، بل اتّسعت معها حدود الوعي الإنساني.

وفقًا لإطارٍ نفسي جديد طوّره الباحثان يان آرو وتوماس كابريل (2025) ونُشر في مجلة Perspectives on Psychological Science، فإن التحوّل الداخلي للإنسان يشبه إلى حدّ بعيد اتساع الخرائط الجغرافية. فكما يُعيد المستكشف رسم حدود العالم، يعيد الإنسان، عبر النمو النفسي، رسم حدوده المعرفية الداخلية.

العقل كخريطة

يُنظر إلى العقل في هذا النموذج بوصفه شبكة ديناميكية من المفاهيم والعواطف والذكريات والمعتقدات تشكّل “خريطة داخلية” نتحرك ضمنها ذهنيًا وسلوكيًا. العلاج النفسي أو التعليم أو حتى التجارب اليومية ليست سوى طرق مختلفة لتوسيع هذه الخريطة.

وحين تضيق خريطتنا المعرفية، نصبح أسرى لأنماط مألوفة من التفكير والشعور والتصرّف. أما التحوّل الحقيقي فيحدث عندما نتجاوز تلك الحدود ونغامر في “أراضٍ نفسية غير مكتشفة”.

من المجاز إلى الواقع العصبي

منذ أربعينيات القرن الماضي، أظهرت الأبحاث أن الجرذان التي تُدرَّب على اجتياز المتاهات تُنشئ في منطقة الحُصين (Hippocampus) خريطة معرفية داخلية تساعدها على التنقّل. والمثير أنّ الدماغ البشري يُظهر النشاط نفسه عندما ينتقل الإنسان بين الأفكار والمفاهيم. التفكير إذًا ليس عملية ذهنية مجردة، بل تنقّل داخلي في شبكة من الارتباطات العصبية.

وقد تمكّنت علوم الشبكات الحديثة من رسم صور تقريبية لهذه الخرائط الداخلية عبر تحليل اللغة واستخدامها (Beaty & Kenett, 2023). كما أثبتت دراسات أخرى (Viganò et al., 2025) أن الحصين يشارك في عمليات الاسترجاع والتصنيف واتخاذ القرار، ما يعني أن مفهوم “خريطة العقل” ليس مجازيًا فقط، بل يعكس بنية عصبية فعلية.

حين تضيق الخريطة

تُبنى خرائطنا الإدراكية على تجاربنا السابقة، وهي غالبًا مفيدة لأنها تمكّننا من التنبؤ والاستجابة بسرعة. لكنها قد تتحوّل إلى قيد حين نحاول التفكير الإبداعي أو مواجهة مواقف جديدة.
فمن تعلّم منذ الطفولة أن “الناس عدوانيون” قد يستمر في تجنّب القرب العاطفي حتى بعد تغيّر الواقع،
ومن يصرّ على أن “الذكاء الاصطناعي هو الحل الوحيد” قد يتجاهل الاعتبارات الأخلاقية والسياقية.

التفسير العصبي لذلك هو أنّ المسارات التي نستخدمها كثيرًا في الدماغ تقوى مع التكرار، تمامًا كما تتكوّن طريق ضيقة في الحقل بعد مرور الأقدام عليها مرارًا.

توسيع الخريطة الداخلية

لتوسيع خريطتنا النفسية، نحتاج إلى الخروج من المسارات المألوفة، وغالبًا ما نحتاج إلى مُرشِد — معالج نفسي أو مدرّب أو معلم — يساعدنا على استكشاف مناطق جديدة داخل وعينا. من خلال الحوار والملاحظة، نكتشف أنماطًا جديدة ونكوّن روابط لم تكن موجودة من قبل. وهكذا تتوسع خريطتنا تدريجيًا، لتتّسع معها قدرتنا على الفهم والتغيير.

العوالم غير المستكشفة في داخلنا

لم يكن كوكب الأرض أصغر قبل الاكتشافات الجغرافية، بل كانت رؤيتنا محدودة. كذلك عقولنا، تحتوي على إمكانات لا نهائية، لكننا نسير عادة في طرق محدودة ومعروفة. إن توسيع الخريطة الذهنية يتطلّب فضولًا وشجاعة واستعدادًا لمغادرة المسار الآمن نحو المجهول، حيث يبدأ التغيير الحقيقي.