التوحد: اختلاف وليس عجز

على مدى عقود، كان يُنظر إلى التوحد من منظور طبي يركز على قصور في التواصل. فطُرحت أساليب تواصل المصابين بالتوحد، مثل تجنّب الأحاديث الجانبية أو أسلوب المباشرة، على أنها مشكلات يجب تصحيحها. وكانت سوء الفهم غالبًا يُلقى باللوم فيه على الشخص المتوحد، الذي يتم تدريبه على التكيف مع معايير غير المتوحدين.
لكن الرؤية الحديثة تعيد صياغة الفكرة: التوحد لا يعني غياب القدرة على التواصل، بل يعني وجود أساليب مختلفة للتواصل. وغالبًا ما تظهر الصعوبات الحقيقية في التفاعلات بين الأشخاص المتوحدين وغير المتوحدين. هذا ما يُفسره عالم الاجتماع داميان ميلتون في مفهومه المسمى “مشكلة التعاطف المزدوج”، الذي يرى أن سوء التواصل يحدث في الاتجاهين، نتيجة عجز كل طرف عن فهم منظور الآخر.
على سبيل المثال، يجد كثير من المتوحدين أن الأحاديث القصيرة بلا معنى، بينما قد يعتبر غير المتوحدين تجنبها تصرفًا باردًا. كلا الطرفين يقرأ الموقف وفق منظوره، فيشعر كل منهما بسوء الفهم. وتُظهر الأبحاث أن الأشخاص المتوحدين يتواصلون بفاعلية فيما بينهم، تمامًا كما يفعل غير المتوحدين. المشكلة تظهر فقط عندما تتصادم أنماط التواصل.
التفاعلات بين الأنماط العصبية المختلفة
تشير الدراسات إلى أن المجموعات المختلطة من متوحدين وغير متوحدين تشهد معدلات أعلى من سوء الفهم، مقارنة بالمجموعات المتجانسة. وهذا يعزز فكرة أن تواصل المتوحدين ليس معيبًا، بل يعتمد على السياق—كما يحدث في الاختلافات الثقافية.
المقارنة الثقافية
كما تختلف العادات والتقاليد بين المجتمعات—من أساليب التحية إلى قواعد اللياقة—فإن الأنماط العصبية المختلفة تحمل قواعدها الخاصة للتفاعل. وما يُعتبر مهذبًا في مجموعة قد يبدو محيرًا في أخرى. إدراك هذه الفروقات يمنع الحكم المسبق على تواصل المتوحدين باعتباره “خاطئًا”.
ما تقوله الأبحاث
أثبتت دراسات الباحثة كاثرين كرومبتون وزملائها أن المجموعات المتجانسة (إما متوحدين فقط أو غير متوحدين فقط) تحافظ على تواصل فعال، بينما تفقد المجموعات المختلطة الترابط بسرعة. كما أظهرت دراسات أخرى أن الثنائيات المتوحدة غالبًا ما تشعر بترابط حقيقي، بل ويقيّمها المراقبون على أنها أكثر انسجامًا.
لماذا هذا مهم؟
الانتقال من نموذج “العجز” إلى نموذج “الاختلاف” يحمل آثارًا عملية:
- تدريب المهارات الاجتماعية يجب أن يُقدَّم كأدوات للتكيف مع مواقف متنوعة، وليس كتصحيح لخلل.
- أساليب التواصل لدى المتوحدين، مثل المباشرة أو التركيز على التفاصيل، يجب تقديرها كطرق أصيلة للتواصل.
- سوء الفهم يجب أن يُرى كمجرد عدم تطابق في الأسلوب، لا كخطأ من أحد الطرفين.
نحو فهم أعمق
عندما ندرك أن صعوبات التواصل سببها اختلاف الأساليب، لا نقص القدرات، تزداد مساحة التعاطف. قد يستفيد المتوحدون من تعلم معايير غير المتوحدين لأسباب عملية، لكن من المهم أن يُقدَّم ذلك كخيارات سياقية، لا كـ“الصواب الوحيد”. وفي المقابل، يمكن لغير المتوحدين التعرف إلى طرق تواصل المتوحدين لبناء فهم متبادل.
إن النظر إلى التوحد كاختلاف، لا كعجز، يفتح المجال لبناء جسور تواصل أكثر إنسانية وشمولًا.