نمذجة السببية الديناميكية: نقلة نوعية في علاج الاكتئاب باستخدام التحفيز المغناطيسي

شهدت تقنيات التحفيز العصبي غير الجراحي، مثل التحفيز المغناطيسي المتكرر عبر الجمجمة (rTMS)، تقدمًا كبيرًا في علاج الاضطرابات النفسية والعصبية، وخاصة الاكتئاب. تعمل هذه التقنيات من خلال تنشيط أو تثبيط مناطق معينة في الدماغ، لكن فعاليتها تعتمد على الروابط المعقدة بين تلك المناطق.
فهم تعقيد الدماغ
يُعد الدماغ البشري نظامًا شديد التعقيد، يعمل من خلال تفاعلات غير خطية بين شبكات عصبية متعددة. ورغم أن التحفيز المغناطيسي يستهدف في الغالب المناطق السطحية في الدماغ، إلا أن تأثيره قد يمتد بشكل غير مباشر إلى المناطق الأعمق بفضل الترابط العصبي بين الشبكات. مع ذلك، لا تزال كيفية حدوث هذا التأثير غير مفهومة بالكامل.
تُعد نمذجة السببية الديناميكية (DCM) منهجًا متطورًا لفهم هذه التفاعلات، حيث تعتمد على تقنيات التصوير الدماغي (مثل fMRI) ونماذج احتمالية تستند إلى الاستدلال البايزي، للكشف عن العلاقات السببية بين نشاط المناطق الدماغية المختلفة. هذا النموذج يوفّر أدوات لفهم كيف تؤثر تغيّرات معينة في الدماغ على النتائج السلوكية والعلاجية.
DCM وعلاج الاكتئاب
في دراسة رائدة نُشرت عام 2025 في مجلة Translational Psychiatry، استخدم الباحثون بقيادة “كيتا” نمذجة DCM لتحليل تأثير التحفيز المغناطيسي على المصابين بالاكتئاب. قارنت الدراسة بين حالات دماغية لـ 175 مريضًا باضطراب الاكتئاب الشديد و270 فردًا سليمًا، لتحديد نقاط الاختلال في الاتصال بين المناطق العصبية.
أظهرت النتائج أن التحفيز المغناطيسي الموجّه إلى قشرة الفص الجبهي الظهرية (DLPFC) ساعد في إعادة التوازن إلى الروابط العصبية غير الطبيعية، خصوصًا تلك التي تربط بين اللوزة الدماغية (مركز العواطف) والقشرة الحزامية الأمامية، وبين مناطق المكافأة مثل النواة المتكئة والقشرة البصرية، وهو ما يفسر جزئيًا فعالية هذا العلاج.
نحو علاج نفسي مخصص
تفتح هذه النتائج المجال لعصر جديد من الطب النفسي الشخصي، حيث يُصمم العلاج وفقًا لخريطة الاتصال العصبي الفريدة لكل مريض. ومع التقدّم في الذكاء الاصطناعي، يمكن تحليل صور الدماغ أوتوماتيكيًا لتقديم بروتوكولات علاجية دقيقة ومخصصة.
كما أن تقنيات جديدة مثل التحفيز فوق الصوتي المركز (tFUS) قد تتيح مستقبلاً الوصول المباشر إلى البنى الدماغية العميقة دون تدخل جراحي، وهو ما يتجاوز قدرات TMS التقليدي.
الخلاصة
يمثّل فهم كيفية تغيّر الاتصال العصبي في الاكتئاب، واستغلال هذه المعرفة لتطوير علاجات دقيقة، تطورًا هائلًا في رعاية الصحة النفسية. ومع تطور أدوات النمذجة العصبية، سيكون الدمج بين DCM والذكاء الاصطناعي خطوة حاسمة نحو تحسين التشخيص والعلاج في الطب النفسي الحديث.