كيف يحدث الإبداع؟ رؤية شاملة من منظور علم النفس

يعتقد معظم الناس أنهم يفهمون معنى “الإبداع” intuitively؛ إذ يرتبط لديهم بالشعور والحدس أكثر من كونه مفهومًا معرفيًا. غير أن محاولة تعريفه بدقة تكشف عن صعوبة حقيقية في الإحاطة به بشكل علمي شامل.
في دراسة حديثة، قدّم البروفيسور روبرت ستيرنبرغ من جامعة كورنيل مراجعة موسّعة لأبحاث علم الإبداع، التي امتدت عبر عقود، ساعيًا إلى تقديم فهم أعمق لطبيعة الإبداع وكيفية تحققه. يرى ستيرنبرغ أن الإبداع ليس سمة ثابتة أو ميزة فردية يولد بها بعض الأشخاص دون غيرهم، بل هو نتيجة تفاعل ثلاث مكونات رئيسية:
- شخص يمتلك القابلية للإبداع
- مهمة تتيح فرصًا للتفكير المفتوح والمتعدد
- بيئة محفّزة تدعم التجديد والتجريب
إذا وُضع شخص ذو إمكانات إبداعية في بيئة جامدة تفرض قيودًا صارمة وتحد من حرية التفكير، فلن يكون بمقدوره إبراز ما لديه من طاقات خلاقة. وعلى النقيض، فإن البيئة المرنة التي تحتفي بالاختلاف وتمنح مساحات للتجريب، غالبًا ما تكون حاضنة للإبداع.
أولًا: الشخص المبدع – السمات والدوافع
يتصف الأفراد ذوو الاستعداد الإبداعي بالفضول والانفتاح والرغبة المستمرة في التعلم وخوض التحديات. فهم لا يكتفون بالروتين، بل يسعون إلى توسيع آفاقهم عبر تجارب جديدة: من السفر وتذوق أطعمة مختلفة، إلى الانخراط في أنشطة غير مألوفة أو التعمق في مجالات معرفية متنوعة.
ورغم أن الشخصية تتأثر بالعوامل الوراثية، فإنها ليست حتمية. إذ يمكن للفرد، عبر الممارسة الواعية، أن يطوّر طريقة تفكيره ويتبنّى موقفًا أكثر انفتاحًا واستعدادًا لتجربة ما هو جديد. هذه المواقف المعرفية، كما يشير ستيرنبرغ، تسهم بشكل مباشر في تنمية القدرة الإبداعية.
كذلك، تلعب أساليب التفكير دورًا جوهريًا. فهناك من يميل إلى توليد الأفكار، وهناك من يفضّل تحليلها ونقدها. وكلتا المهارتين ضروريتان لتحقيق الإبداع الفعّال. أما الميل المفرط إلى الالتزام بالتعليمات ورفض التغيير، فهو غالبًا ما يكون عائقًا أمام التفكير الخلّاق.
وتتميّز الشخصية الإبداعية أيضًا بالمرونة الفكرية؛ أي القدرة على التراجع عن الأفكار القديمة عند ثبوت عدم جدواها. فالتشبث المفرط بالأفكار، حتى الناجحة منها في الماضي، يؤدي إلى الجمود وتراجع الإبداع بمرور الوقت.
ثانيًا: المهام والبيئات المُحفّزة للإبداع
ليست كل المهام محفّزة للإبداع. فالمهام التي تتيح تعددية في الحلول، وتكون ذات معنى شخصي للفرد، تُعد بيئة مثالية لإنتاج أفكار جديدة. أي أن الدافع الشخصي والمعنى الذاتي المرتبط بالمهمة يؤثران على احتمالية تحقق الإبداع.
كما أن السياقات الاجتماعية المحيطة بالفرد – من زملاء وأصدقاء إلى مديرين ومؤسسات – تلعب دورًا حاسمًا. فالمجتمعات أو الفرق التي لا تُقدّر الإبداع أو لا توفر له الدعم العملي غالبًا ما تَئد الأفكار الجديدة في مهدها. وفي المقابل، فإن التشجيع وتوفير مساحات آمنة لطرح الأفكار بدون خشية من الرفض أو السخرية يُعد عنصرًا أساسيًا لتحفيز الإبداع.
وعلى المستوى الأوسع، تؤثر السياسات الحكومية، وأنظمة الدعم، والقيود الثقافية، في مدى ازدهار الإبداع داخل المجتمع. على سبيل المثال، حين تُقيّد حرية التعبير أو يُحرَم البحث العلمي من التمويل، تقل فرص الإبداع المؤثر. صحيح أن بعض الإبداع قد يظهر في صور مقاومة أو تهكّم، إلا أن هذه الظروف عمومًا تؤدي إلى انكماش الإبداع لا ازدهاره.
وتجدر الإشارة إلى أن الزمن ذاته يُعد عاملًا مؤثرًا في الإبداع. فالفكرة التي تُعد ثورية في سياق زمني معين، قد تبدو تقليدية في زمن آخر. من هنا، فإن الإبداع مرتبط دومًا باللحظة التاريخية التي يظهر فيها، وبالاحتياجات والمشكلات السائدة خلالها.
ثالثًا: ليس كل إبداع إيجابيًا
حين تجتمع الشروط الثلاثة: الشخص، والمهمة، والبيئة، تصبح احتمالات ظهور الإبداع عالية. ولكن، من الضروري الإشارة إلى أن الإبداع ليس بالضرورة أمرًا إيجابيًا في حد ذاته.
فقد يُوظّف الإبداع في أغراض ضارّة، مثل الحملات الإعلانية التي ساهمت في ترويج العقاقير المسببة للإدمان. في المقابل، يمكن للإبداع أن يكون منقذًا للبشرية، كما في تطوير اللقاحات التي منعت تفشي أمراض خطيرة.
ويُصنّف ستيرنبرغ الإبداع إلى ثلاثة أنواع رئيسية:
- الإبداع التبادلي: وهو الذي يُنتج بدافع المكافأة المادية أو الوظيفة، مثل الحملات التسويقية أو التصميم الصناعي.
- الإبداع التحويلي الذاتي: ويهدف إلى التعبير عن الذات والنمو الشخصي، مثل كتابة الشعر أو ممارسة الفنون.
- الإبداع التحويلي المجتمعي: وهو أعلى درجات الإبداع، إذ يهدف بوعي إلى تحسين المجتمع أو إحداث تغيير إيجابي شامل.
الإبداع ليس موهبة غامضة نولد بها أو نُحرم منها، بل هو عملية معقّدة تنشأ من تفاعل الفرد مع المهمة والبيئة. وكلما فهمنا هذه العناصر الثلاثة وأحسنا توظيفها، زادت قدرتنا – أفرادًا ومجتمعات – على الإبداع الهادف والمؤثر.